فرق كبير بين أن نتحدث أو نكتب عن أمر ما، كالحب أو الشوق أو الحنين إلى الأوطان من منطلق نظري وبين أن ننطلق من المعايشة العملية أو المشاهدة العينية!
ربما كان هذا المعنى يخطر بالبال أحيانا، لكنه ترسخ عندي في مناسبة سعيدة يوم 29 أكتوبر 1993 وكنا مجموعة من الشباب “الصغار” قد اقتلعنا بغي الاستبداد من معاهدنا وجامعاتنا ووطننا وأحضان الوالدين والأهل، فوجدنا أنفسنا في أرض السودان نطلب الأمان ونواجه الجوع والفقر والحرمان وأمراض لم نعرفها من قبل، فضلا عن انقطاع أخبار الأهل والخلان!
اجتمعنا في حضرة الشيخ الشهيد أحمد محجوب حاج نور، أحد مشايخ الحركة الإسلامية السودانية، وكان رحمه الله محبا للشباب التونسي الذين هاجروا للسودان، يعطف عليهم عطف أبوة.
خطب فينا عن الدروس والعبر من السيرة في حادثة الهجرة.
وحدثنا عن الابتلاءات التي لاقاها الصحابة المهاجرين، وعن حمى يثرب التي أصابتهم ولم يكن لهم عهد بمثلها في مكة، وقال إن تلك الحمى على أرجح الاحتمالات هي الملاريا التي استقبلتنا في السودان وفتكت ببعضنا، وبثت في صفوفنا رالرعب.
ثم ختم الشيخ رحمه الله مداخلته بقوله، اقرؤوا السيرة مجددا فالذي يقرؤها من منطلق المعايشة العملية غير الذي يقرؤها في أيامه العادية!
يومها عرفت المعنى الحقيقي لبوح النبئ محمد صلى الله عليه وسلم في هجرته وهو ينظر لمكة ويقول “واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ”!
والحديث عن الهجرة من منطلق المعايشة يشبهه قراءة آية أو آيات وأنت في المكان الذي تذكره الآية، مثل أن تكون على جبل الصفا أو المروة وتقرأ قوله تعالى “إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما”، أو أن تكون في المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات وتقرأ”…فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام…”!
وكذلك الحديث عن الشوق والحنين للأوطان وعن الثورة والتحرر، الفرق كبير بين أن يكون كلاما مجردا وأن تصبح حقيقية معاشة، كما عشناها يوم 14 جانفي 2011، ويعيشها إليوم إخواننا السوريين.
كثيرون منا نشؤوا مع المنشدين الإسلاميين، أبو دجانة وأبو الجود وأبو راتب، وكنا نحفظ كلماتهم التي تنشينا وتطربنا وتحمسنا للنضال والثورة على الظلم وتحببنا في الأوطان وتشوقنا إليها، ولكن فرق كبير بين سماعنا في السابق لأغنية مثل “دمشق في القلب” للفنان “أبو راتب” وبين أن نسمعها منه اليوم وهو ينشدها من داخل سيارة “الجزيرة مباشر” وهي تجوب به شوارع دمشق وأحيائها بعد غياب قسري دام 44 سنة.
الفرق كبير بين أن نقرأ قبل سقوط نظام الأسد “يا شام” للشاعر الاستاذ عصام العطار أو حتى نسمعها بأداء أبو راتب، وبين أن نسمعها اليوم والفنان يغنيها بين يدي الأستاذ العطار الذي عاش حوالي 100 سنة منها أكثر من ستة عقود منفيا عن الشام، ومات قبل أشهر ولم ير سقوط نظام الأسد الذي نكل به واغتال زوجته بنان الطنطاوي رحمها الله!
أشواق الثورة والنصر اليوم في سوريا تحرك أشواقنا لثورتنا المغدورة التي غطى رماد الثورة المضادة جمرها، ولكنه مازال عندنا وعند كبارنا جمرا يوشك أن يرتفع لهيبه، وقد رأيت شيخ المناضلين عز الدين الحزقي الرجل الثمانيني يحدث عن أشواق الثورة ويذكر كيف سمع مع رفاقه ضجيحا في الشارع أمام وزارة الداخلية وهم في قبوها معتقلون، فظنوا أنها ثورة وأن رفاقهم جاؤوا لاخراجهم من المعتقل، قال إن ذلك “الحلم” دام ثلاث دقائق من يوم 14 جانفي 1974، ولكن الحلم تحقق في نفس التاريخ بعد 37 سنة ذلك ما حدث به حفيدته أمام مقر وزارة الداخلية يوم 14 جانفي 2011.
ومازال الرجل يقف واثقا من اكتمال الحلم رغم الانتكاسات ورغم الكيد!
هل علمتم الآن الفرق بين المشاعر حين نراها أو نعيشها ونقف في مواطئها وبين أن نسمع عنها أو نتخيلها؟
كما تخيلها العطار من قبل وأصبحت واقعا:
يا ثورة الحق ما أحلى مرائيـنـاالغيب يبدو لنا نصراً وتمكـيـنا! وباسمُ الغد عبر الأفـق نلـمحـهيهفو لملقاتنا غاراً ونسـريـنـا!
وقادم النصـر نحـيـاه ونلمسـه *الله أكـده فـالـنصـر آتـيـنا!
وقد يكـون بنا والعـمر منفسـح *وقد يكون بأجـيـال توالـيـنـا!
فإن ظفرنا فقد نلـنا مطـالبـنـا *وإن هـلكنـا فإن الله جازيـنـا!
وختاما أدركت ما يزيد من تصديق هذه الخاطرة، فقد أثبتت العجز التام عن نقل المشاعر والأحوال التي قد يحسها أحدنا في لحظة ما وأمام مشهد ما إلى كلمات!
دمتم بخير!
طه البعزاوي
14 جانفي 2025
